لطالما وصف الإنسان الذي يُظهر تناقضاً حاداً في سلوكه أو مواقفه بـ ذي الوجهين لكن علم النفس يميز بدقة بين التقلب السلوكي العادي وبين الظاهرة السريرية المعقدة المعروفة بـ اضطراب الهوية التفارقي Dissociative Identity Disorder - DID وهو الاسم الحديث لاضطراب تعدد الشخصيات هذا الاضطراب هو حالة نفسية حقيقية وموثقة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5 ويتطلب فهماً قائماً على الأدلة بدلاً من الأحكام الشعبية
1 التعريف السريري والأعراض الأساسية
يعرف اضطراب الهوية التفارقي بأنه اضطراب تفارقي يتميز بوجود هويتين متميزتين أو أكثر تُعرف كل منهما باسم هوية بديلة Alters تتناوب على السيطرة على سلوك الفرد هذا التناوب ليس مجرد تقلب مزاجي بل هو انفصال حاد في جوانب الهوية والذاكرة والوعي
الأدلة التشخيصية وفقاً للدليل DSM-5
وجود هويتين متميزتين أو أكثر يتميز كل منهما بنمط ثابت خاص به في إدراك الذات والعالم والتفاعل معه هذه الهويات قد تختلف بشكل كبير في العمر والجنس والمزاج وسمات الشخصية وحتى في القدرات الجسدية مثل الحاجة إلى نظارات في هوية وعدمها في أخرى
فجوات في الذاكرة Dissociative Amnesia يعاني المصاب غالباً من عدم القدرة على تذكر معلومات شخصية هامة لا يمكن تفسيرها بالنسيان العادي تحدث هذه الفجوات عندما تتولى هوية أخرى السيطرة وقد لا تتذكر الهوية الأساسية ما فعلته الهوية البديلة
الضيق السريري يسبب الاضطراب ضيقاً كبيراً أو ضعفاً في الأداء الوظيفي والاجتماعي
2 الدليل العلمي الصدمة كآلية تفارق Dissociation
البحث العلمي يُجمع على أن السبب الرئيسي لاضطراب الهوية التفارقي هو صدمات الطفولة الشديدة والمُتكررة مثل الإساءة الجسدية أو الجنسية أو الإهمال العاطفي المزمن
الإثباتات البحثية
الارتباط بالصدمة تشير الغالبية العظمى من الأبحاث السريرية إلى أن أكثر من 90% من المصابين باضطراب الهوية التفارقي لديهم تاريخ موثق من الإساءة الشديدة أو الصدمة في مرحلة الطفولة
التفارق كآلية دفاعية يرى علماء النفس أن الاضطراب يتطور كآلية دفاعية قصوى يجد الطفل الذي يتعرض لصدمات لا يمكنه الهروب منها جسدياً طريقة للهروب نفسياً عن طريق فصل تجربته المؤلمة عن وعيه هذا الفصل المتكرر يؤدي بمرور الوقت إلى فشل في دمج جوانب الشخصية المختلفة الأفكار المشاعر الذكريات في هوية واحدة متكاملة
نظرية انفصال بنية الشخصية Structural Dissociation of the Personality تعتبر هذه النظرية التي طورها باحثون مثل فان دير هارت وزملاؤه الإطار الأبرز لفهم DID تفترض النظرية أن الشخصية تنقسم إلى
الجزء الظاهري من الشخصية Apparently Normal Part - ANP وهو الجزء المسؤول عن وظائف الحياة اليومية العمل العلاقات الرعاية الذاتية
الجزء العاطفي من الشخصية Emotional Part - EP وهي الأجزاء التي تحمل الصدمة والمشاعر المرتبطة بها الخوف الغضب اليأس ويُعتقد أن الهويات البديلة ما هي إلا مظاهر لهذين الجزأين
3 التمييز بين DID والسلوك المتناقض
من الضروري التفريق بين اضطراب الهوية التفارقي والسلوك الاجتماعي المسمى بـ العيش بوجهين أو النفاق حيث أن الأخير ينطوي على وعي واختيار بينما الأول هو اضطراب مرضي لا إرادي
السمة | اضطراب الهوية التفارقي DID | السلوك المتناقض النفاق اجتماعياً |
الدافع الأساسي | آلية دفاعية لا إرادية ضد الصدمة الشديدة | دوافع واعية مثل المصلحة الخوف التلاعب إرضاء الآخرين |
الذاكرة | فقدان ذاكرة فجوات زمنية بين الهويات المختلفة | ذاكرة كاملة الشخص يتذكر كل ما قاله وفعله |
جوهر التغيير | انفصال حقيقي في بنية الهوية والوعي | تكييف أو تغيير في السلوك أو الرأي الواعي |
الخلط الشائع مع الفصام Schizophrenia
هناك خلط شائع بين تعدد الشخصيات والفصام علمياً هما مرضان مختلفان تماماً
الفصام هو اضطراب ذهاني يتميز بالهلاوس سماع أصوات غير موجودة والأوهام اعتقادات خاطئة والتفكير المضطرب الفصام يعني حرفياً انفصال العقل عن الواقع وليس وجود شخصيات متعددة
اضطراب الهوية التفارقي هو اضطراب تفارقي يتميز بوجود هويات متناوبة وفجوات في الذاكرة ولا يشتمل بالضرورة على الذهان أو الهلاوس السمعية بالمعنى الفصامي
4 العلاج والتوقعات
العلاج الفعال لاضطراب الهوية التفارقي هو عملية طويلة ومعقدة تركز بشكل أساسي على العلاج النفسي طويل الأمد
ركائز العلاج
بناء الاستقرار والأمان وهو المرحلة الأولى والأساسية لتمكين المريض من السيطرة على أعراض التفارق والتحمل العاطفي
معالجة الصدمة Trauma Work العمل على معالجة الذكريات الصادمة وتكاملها في وعي المريض غالباً باستخدام تقنيات مثل العلاج السلوكي الجدلي DBT أو المعالجة المعرفية للسلوك الصادم TF-CBT
تكامل الهوية Integration الهدف النهائي هو دمج الهويات البديلة في هوية واحدة متماسكة وفعالة أو تحقيق التعاون التام بينها
في الختام يثبت علم النفس أن مفهوم ( العيش بوجهين )في سياقه السريري المتطرف DID هو صرخة ألم من (عقل يحاول حماية نفسه من صدمة ساحقة) في مرحلة حرجة من التطور هو ليس اختياراً للنفاق بل هو بنية دفاعية نفسية تتطلب الدعم المتخصص والتعاطف القائم على الأدلة
بقلم : فيصل بن احمد البقمي