في عصر يتجه نحو التخصص الدقيق في كل مجال تبرز ظاهرة الأفراد متعددي المواهب (Multipotentialites) كقوة دافعة نحو الابتكار والتكامل المعرفي. هؤلاء هم الأشخاص الذين لا يكتفون بمسار مهني أو إبداعي واحد بل يمتلكون شغفًا عميقًا وموهبة حقيقية في عدة مجالات مختلفة مثل الفن والعلوم والأعمال في آن واحد. إن تعدد المواهب ليس تشتتًا بل هو قدرة فريدة على الجمع بين المعارف والمهارات لخلق حلول جديدة وغير تقليدية.
ماهية تعدد المواهب وخصائص أصحابه
يُعرف الشخص متعدد المواهب بأنه فرد لديه القدرة على تحقيق مستويات عالية من الكفاءة والنجاح في مجموعة من المجالات المختلفة التي قد لا تبدو مرتبطة ببعضها البعض. ويتمتع هؤلاء الأفراد بخصائص تميزهم:
1. القدرة على التوليف (Synthesis)
هي الميزة الأقوى لديهم فهم بارعون في ربط النقاط المتباعدة والدمج بين أفكار من تخصصات مختلفة لإنتاج شيء جديد ومبتكر. على سبيل المثال دمج مهاراتهم في التصميم الجرافيكي مع فهمهم لعلم النفس السلوكي لإنشاء حملات تسويقية مؤثرة.
2. التعلم السريع
يتميزون برغبة لا تشبع في المعرفة وفضول فطري يدفعهم لإتقان أي مهارة جديدة بسرعة فائقة وبمجرد أن يستخلصوا جوهر المجال ينتقلون بشغف إلى المجال التالي.
3. التكيف والمرونة
قدرتهم على التنقل بين بيئات عمل وأدوار مختلفة تجعلهم مرنين للغاية وقادرين على التكيف مع التغيرات السريعة ، فهم يزدهرون في البيئات التي تتطلب حلولًا متعددة الأبعاد.
تعدد المواهب في بيئة العمل المعاصر
بينما يعلي العالم من شأن التخصص الأوحد بدأت المؤسسات تدرك القيمة الهائلة لمتعددي المواهب خاصة في بيئات العمل المعقدة:
حل المشكلات المعقدة: المشاكل الكبرى غالبًا ما تكون متعددة الأوجه ولا يمكن حلها بمنظور واحد فمتعدد المواهب يجلب رؤية شاملة تمكنه من النظر إلى التحدي من زوايا مختلفة (تقنية تسويقية فنية) مما يؤدي إلى حلول أكثر فعالية.
جسور بين الفرق: غالبًا ما يعملون كـ حلقة وصل فعالة بين الفرق المتخصصة (مثل فريق المبرمجين وفريق التصميم) حيث يتحدثون لغة الطرفين مما يقلل من سوء الفهم ويسرع من سير العمل.
الريادة والابتكار: العديد من رواد الأعمال والمبتكرين الكبار هم بالأساس متعددو المواهب (مثل ليوناردو دا فينشي وإيلون ماسك) لأن سعيهم وراء الشغف المتعدد يولد لديهم أفكاراً ريادية جديدة.
تحديات التشتت وكيفية إدارتها
رغم المزايا يواجه متعددو المواهب تحديات تتطلب إدارة واعية:
الشعور بالتشتت: قد يشعرون بالإرهاق أو التشتت نتيجة للانتقال المستمر بين الاهتمامات ما قد يؤدي إلى عدم إنهاء المشاريع أو عدم الوصول إلى مستوى الإتقان في أي مجال.
المعضلة الاجتماعية: قد يواجهون صعوبة في تحديد هويتهم المهنية ويتلقون ضغطاً مجتمعياً للتركيز على مسار واحد أو يتهمون بالسطحية وعدم الجدية.
لمعالجة هذه التحديات يجب على متعددي المواهب تبني استراتيجيات مثل التجميع المرحلي (Sequential Integration) أي التركيز على مجال واحد لفترة معينة حتى إتقانه ثم الانتقال للمجال التالي، أو التجميع المتزامن (Simultaneous Integration) عن طريق إيجاد مجالات تسمح بدمج مواهبهم المتعددة في دور واحد يسمى أحياناً "المظلة المهنية".
الخاتمة ياسادة
إن تعدد المواهب ليس عيبًا يستوجب العلاج بل هو هبة عقلية يجب رعايتها وتوجيهها ففي عالم يزداد تعقيدًا وتداخلاً يحتاج المجتمع إلى هؤلاء العقول المترابطة التي تستطيع أن ترى الصورة الكبيرة وتجمع شتات المعرفة. المطلوب هو تغيير النظرة المجتمعية لتقدير قيمة التكامل على حساب التقديس المطلق للتخصص وإتاحة الفرص لهؤلاء الأفراد ليكونوا حقاً قادة المستقبل الذين يبتكرون مسارات غير مرسومة ويشكلون الجيل القادم من المبدعين.
بقلم : فيصل بن احمد القمي
