وصف المدون

.bigmag-post-author { display: none; }
الصفحة الرئيسية غير مصنف الصغار أصبحوا أعقل من الكبار

الصغار أصبحوا أعقل من الكبار

د. ضيف الله مهدي

المقدمة: التوقعات وخيبة الأمل

من الطبيعي أن يتطلع المجتمع إلى كبار السن، الشيوخ، والأطباء والمتميزين، ليكونوا منارة يهتدى بها. ننتظر منهم أن يسردوا خلاصة أعمارهم وخبراتهم لتهذيب سلوكيات الناشئة الذين قد يمرون بطيش المراهقة، وأن يطمئنوا كبار السن بأن جيل الخلف سيحمل لهم كل الحب والمودة، ولن ينسى عطاءهم للمجتمع.

لكن ما يحدث أحياناً على منصات التواصل الاجتماعي يصدم هذه التوقعات، حيث يخرج علينا بعض ممن يفترض بهم أن يكونوا قدوة، بأفكار وكلام يوصف بأنه "أقبح من القباحة"، بل قد يسميه البعض "عهر الكلام".

السقوط المدوي: صناعة النكد والشكوك

إن هذا التدهور في الخطاب يأتي على شكلين رئيسيين يساهمان في زعزعة الاستقرار الأسري والمجتمعي:

1. بث الشكوك في قلوب الآباء

هناك من يوجه رسائل مباشرة وكارثية للآباء الذين بلغوا خريف العمر واقتربوا من "الرحلة الطويلة"، فيوغر صدورهم بالقول: "تراك بتموت، وبعد موتك لن يهتم بك أو يذكرك أحد حتى أبناؤك، وسيكون جل اهتمامهم ليلة وفاتك ولحدك ودفنك هو الطعام والمفطح والشطة والبيبسي والميرندا".

هذه "النصيحة" الكاذبة قد تدفع أباً للبُكاء والندم، بل وربما تتسبب في تغيير معاملته لأبنائه بناءً على شك مسموم، بدلاً من بث الطمأنينة والمودة.

2. التباهي بالجفاء والتفاهة

في المقابل، يظهر من يتباهى ببرودة المشاعر والجفاء. فهذا يذكر أن فقدانه درجة واحدة في الاختبار "أهم عنده من موت أبيه وأمه"، وذاك يفتخر بذهابه للاختبار بعد موت والده مباشرة، أو بممارسة البيع والشراء في يوم وفاة والدته!

إن هذه الأمثلة تمثل سقوطاً مدوياً لمن يفترض بهم أن يكونوا قادة الفكر والحكمة. يتساءل المرء: كيف سيراكم الناشئة بعد أن أظهرتم هذا القدر من الانحدار؟ ليت الأرض ابتلعت هذه الكلمات القاسية قبل أن تُقال، فكان الناس سيبكون على جميلكم؛ أما الآن فلن يتذكروا إلا هذا السقوط.

صعود الوعي الشبابي (الصغار أعقل)

على النقيض تمامًا من هذا المشهد السلبي للكبار، نجد في مواقع التواصل والسنابات شبابًا صغارًا ينشرون الفرح والبهجة. صحيح أن البعض لا يتابعهم، لكن ما يصل من محتواهم هو دعوة للسعادة والتقارب والإيجابية.

التساؤل هنا موجّه للكبار الذين نشروا النكد وزرعوا الشكوك: لماذا لم تنشروا الفرح والسعادة؟ لماذا لم تعملوا على تقريب وجهات النظر وحثّ الآباء على الاهتمام بأبنائهم حتى لو كانوا على فراش الموت؟

الإرشاد القرآني والنبوي: التوازن في العلاقات

إن الإسلام وضع قواعد متوازنة للعلاقات الأسرية، بدءاً من الحرص على الأجيال الضعيفة وصولاً إلى واجب البر بالوالدين:

التخطيط للمستقبل وحماية الذرية

يقول الله تعالى:

{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}$ (سورة النساء: 9)

هذا توجيه رباني لحث الآباء على التخطيط والاحتياط لمستقبل أبنائهم. كما أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في الجانب المالي بقوله لسعد بن أبي وقاص:

"إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس." (متفق عليه)

واجب الحب والمودة المتبادلة

إذا كان التخطيط المالي مهماً، فإن الحب والعلاقة والمودة هي الأهم. يجب على الآباء أن يتركوا أبناءهم وهم يشعرون بحبهم لهم، وواجب على الأبناء رعاية آبائهم وإشعارهم بالحب الصادق.

إن قمة الإحسان تتجلى في قوله تعالى:

{وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}$ (سورة الإسراء: 23-24)

الخاتمة: الحياة دين وقضاء

الحياة المتوازنة تقوم على مبدأ المكافأة والجزاء؛ أنت ملزم بمعاملة أمك وأبيك بالحب والعطف والرحمة كما كانا يعاملانك. وستنجب الأبناء، وستكون معاملتهم لك على شاكلة تعاملك مع والديك. فـ "الحياة دين وقضاء"، والتعامل الطيب يبقى أثره وذكره، بينما يمحو السقوط المدوي كل جميل سابق.


إعلان أول الموضوع

إعلان وسط الموضوع

إعلان أخر الموضوع